إنا لله وإنا إليه راجعون.
رحل عن دنيانا قبل قليل الجنرال المهذب، كما يرحل الرجال حين يُكتب لهم أن يكونوا شهودًا على التاريخ، ثم يغيبوا عنه قبل أن يكتمل المشهد. رحل عوض بن عوف، وترك خلفه أيامًا كان فيها شاهدًا على وطنٍ تقاذفته العواصف، وأمةٍ جاهدت للثبات على أقدامها وسط مصالح العملاء والخونة.
لم يكن رجلًا عاديًا، بل كان ممن حملوا همّ الدولة في أوقات اضطرابها. وحين جاء الدور إليه، لم يكن ممن يسعون للخلود في كراسي الحكم، بل كان أول من سن سنة الزهد في السلطة، وترجل عن قيادة الدولة في الحال عندما طلب منه الشارع ذلك. لم يمكث إلا يومًا واحدًا في سدة الحكم، ثم تركها دون تردد، في خطوة نادرة في تاريخ الانقلابات العسكرية، حيث يتشبث القادة عادةً بالسلطة حتى الرمق الأخير.
كان هادئًا في حضوره، مهذبًا في خصاله، لم يعرف عنه الصخب ولا التكبر، بل حمل نفسه بوقار العسكري الذي يخدم وطنه دون استعراض. رأى بأم عينه كيف تسقط الأقنعة، وكيف تنكشف الحقائق، وكيف تذبل دولةٌ كان يحلم أن يراها شامخة، ولكن شاءت الأقدار أن يرحل قبل أن يكتب للتاريخ سطوره الأخيرة بنهاية التمرد الغاشم.
لعل عزاءه في موته، أن الأيام بدأت تكشف ما كان جليًا له، وأن ما حذّر منه لم يكن سرابًا، بل حقيقةً تتجلى أمام أعين الجميع. كان له ما أراد، أن يشهد بداية النهاية لمن ناصبهم العداء، وإن رحل قبل أن تكتمل الصورة.
رحمك الله أيها الجنرال المهذب، وغفر لك ما كان، وجعل لك نصيبًا من دعاء من عرفوك بحق، ومن أدركوا أنك كنت، رغم كل شيء، رجلًا لم يبع وطنه في سوق الاطماع والمصالح.